فصل: تفسير الآية رقم (31)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

خلَقهُم مِنْ غير أَنْ شاورهم، وأثبتهم- على الوصف الذي أراده- دون أن خَيَّرهم، ولم يعلموا بماذا سبق حُكْمُهم‏.‏‏.‏ أبا لسعادة خلقهم أم على الشقاوة من العدَم أخرجهم من بطون أمهاتهم‏؟‏ فلا صلاحَ أَنْفُسِهِمْ عَلِمُوا، ولا صفةَ ربِّهم عَرفوا‏.‏ ثمَّ بحُكْم الإلهام هداهم حتى قَبِّلَ الصبيُّ ثدي أمه وإن لم يكن قد تقدمه تعريف أو تخويف أو تكليف أو تعنيف‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ‏}‏‏:‏ لتسمعوا خطابه، ‏{‏وَالأَبْصَارَ‏}‏ لتُبصِروا أفعالَه، ‏{‏وَالأَفْئدَةَ‏}‏ لِتَعْرِفُوا حقَّه، ثم لتَشكروا عظيم إنعامه عليكم بهذه الحواس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

الطائر إذا حَلّقَ في الهواء يبقى كالواقف ولا يسقط، وقد قامت الدلالة على أن الحقَّ- سبحانه- متفرِّدٌ بالإيجاد، ولا يَخْرُجُ حادثٌ عن قدرته، وفي ذلك دلالة على كمال قدرته سبحانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏80‏)‏‏}‏

للنفوس وطن، وللقلوب وطن‏.‏ والناس على قسمين مستوطنٌ ومسافر‏:‏ فكما أن الناس بنفوسهم مختلفون فكذلك بقلوبهم؛ فالمريد أو الطالب مسافِرٌ بقلبه لأنه يَتَلَوَّنُ، ويرتقي من درجة إلى درجة، والعارف مقيمٌ ومستوطِنٌ لأنه واصل متمكن‏.‏ والطريق منازلُ ومراحلُ، ولا تقطع تلك المنازل بالنفوس وإنما تقطع بالقلوب، والمريد سالِكُ والعارف واصِلٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

في الظاهر جعل لكم من الأشجار والسقوف ونحوها ظلالاً *** كذلك جعل في ظل عنايته لأوليائه مثوًى وقراراً‏.‏

وكما سَتَرَ ظواهركم بسرابيل تقيكم الحرَّ وسرابيل تقيكم بأس عدوكم- كذلك ألبس سرائركم لباساً يلفكم به في السراء والضراء، ولباسَ العصمة يحميكم من مخالفته، وأظلكم بظلال التوفيق مما يحملكم على ملازمة عبادته، وكساكم بحُلَلِ الوصل مما يؤهلكم لقربته وصحبته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، إتمام النعمة بأنتكون عاقبتُهم مختومة بالخير، ويكفيهم أمورَ الدين والدنيا، ويصونهم عن اتباع الهوى، ويُسَدِّدُهم حتى يؤثروا ما يوجِبُ من الله الرضاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏82‏)‏‏}‏

إذا بَلَّغْتَ الرسالة فما جعلنا إليك حكم الهداية والضلالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

يَسْتَوْفِقُونَ إلى الطاعةِ، فإذا فعلوا أُعجِبُوا بها‏.‏

ويقال يستغيثون، فإذا أجابهم قَصَّروا في شُكْرِه‏.‏

ويقال إذا وَقَعَتْ لهم محنةٌ استجاروا بربهم، فإذا أزال عنهم تلك المحن نسوا ما كانوا فيه من الشدة، وعادوا إلى قبيح ما أسلفوه من أعمالهم التي أوجبت لهم تلك الحالة‏.‏ ويقال يعرفون في حال توبتهم قُبْحَ ما كانوا فيه حال زلتهم، فإذا نقضوا توبتهم صاروا كأنهم لم يعرفوا تلك الحالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

إذا كان يومُ الحشر سأل الرسلُ عن أحوال أُمَمِهم، فمن نَطَقَ بحجةٍ أُكْرِمَ، ومَنْ لم يُدْلِ بحجةٍ لا تُراعى له حُرْمةٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

أي يُشَدَّد عليهم الأمرُ ولا يُسَهَّل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

تمنوا أن يَنْقُموا من إخوانهم الذين عاشروهم، وحملوهم على الزَّلَّة، فيتبرأون من شركائهم، ويلعن بعضهم بعضاً، وتضيق صدورهم من بعض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏87‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ واستسلمو لأمر الله وحُكْمه، ويؤمئذ لا تضرُّع منهم يُرَى، ولا مِحْنَةَ- يصرخون من ويلها- عنهم تُكْشَف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

تأتي- يومَ القيامة- كلُّ أمة مع رسولها، فلا أُمةَ كهذه الأمةِ فضلاً، ولا رسولَ كرسولنا صلى الله عليه وسلم- رتبةً وقَدْرَاً‏.‏

‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ‏}‏ أي القرآن تبياناً لكل شيء، فيه للمؤمنين شفاء، وهو لهم ضياء، وعلىلكافرين بلاء، وهو لهم سبب محنة وشقاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

العدل ما هو صواب وحسن، وهو نقيض الجور والظلم‏.‏

أمر اللَّهُ الإنسانَ بالعدل فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين الخَلْق؛ فالعدلُ الذي بينه وبين نفسه مَنْعُها عما فيه هلاكُها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 40‏]‏، وكمالُ عدلِه مع نفسه كيُّ عُروقِ طمعِه‏.‏

والعدلُ الذي بينه وبين ربِّه إيثارُ حقِّه تعالى على حظِّ نفسه، وتقديمُ رضا مولاه على ما سواه، والتجرد عن جميع المزاجر، وملازمة جميع الأوامر‏.‏

أو العدل الذي بينه وبين الخَلْق يكون ببذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل أو كثر، والإنصاف بكل وجه وألا تَشِيَ إلى أحد بالقول أو بالفعل، ولا بِالهَمِّ أو العزم‏.‏

وإذا كان نصيبُ العوام بَذْلَ الإنصافَ وكَفِّ الأذى فإِنَّ صفةَ الخواص تَرْكُ الانتصاف، وإسداءُ الإِنْعَام، وترك الانتقام، والصبرُ، على تَحَمُّلِ، ما يُصيبُكَ من البلوى‏.‏

وأما الإحسان فيكون بمعنى العلم- والعلمُ مأمورٌ به- أي العلم بحدوثِ نَفْسه، وإثباتِ مُحْدِثه بصفات جلاله، ثم العلم بالأمور الدينية على حسب مراتبها‏.‏ وأما الإحسانُ في الفعل فالحَسَنُ منه ما أمر الله به، وأَذِنَ لنا فيه، وحَكَمَ بمدح فاعله‏.‏

ويقال الإحسان أن تقوم بكل حقِّ وَجَبَ عليك حتى لو كان لطيرٍ في مِلكِك، فلا تقصر في شأنه‏.‏

ويقال أن تَقْضِيَ ما عليك من الحقوق وألا تقتضِيَ لك حقاً من أحد‏.‏

ويقال الإحسان أن تتركَ كل ما لَكَ عند أحد، فأما غير ذلك فلا يكون إحساناً‏.‏

وجاء في الخبر‏:‏ «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» وهذه حال المشاهدة التي أشار إليها القوم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِيِتَآئِ ذِى القُرْبَى‏}‏ إعطاء ذي القرابة، وهو صلةُ الرَّحِمِ، مع مُقاساةِ ما منهم من الجَوْرِ والجفاءِ والحَسَدِ‏.‏

‏{‏وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَآءِ وَالمُنْكَرِ‏}‏‏:‏ وذلك كلُّ قبيح مزجورٍ عنه في الشريعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

يُفْرَضُ على كافةِ المسلمين بعهد الله في قبول الإسلام والإيمان، فتجبُ عليهم استدامةُ الإيمان‏.‏ ثم لكلِّ قوم منهم عهدٌ مخصوص عاهدوا الله عليه، فهم مُطَالَبُون بالوفاء به؛ فالزاهدُ عَهْده ألا يرجعَ إلى الدنيا، فإذا رجع إلى ما تركه منها فقد نَقضَ عهده ولم يفِ به‏.‏ والعابد عاهده في تَرِكِ الهوى‏.‏ والمريدُ عَاهَدَه في ترك العادة، وآثره بكل وجه‏.‏ والعارف عهده التجرد له، وإنكار ما سواه‏.‏ والمحب عهده تركُ نَفْسِهِ معه بكل وجه والموحّضد عهده الامتحاء عنه، وإفراده إياه بجميع الوجوه والعبد مَنْهِيٌّ عن تقصير عهده، مأمورٌ بالوفاء به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ‏}‏ مَنْ نَقَضَ عهده أفسد بآخِرِ أمرِه أَوَّلَه، وهَدَمَ بِفِعْلِهِ ما أَسَّسَه، وقَلَعَ بيده ما غَرَسَه، وكان كمن نقضت غَزْلَها من بعد قوة أنكاثاً أي من بعد ما أبرمت فَتْلَه‏.‏

وإنَّ السالكَ إذا وقعت له فترة، والمريدََ إذا حصلت له في الطريق وقفةٌ، والعارف إذا حصلت له حجَبَةٌ، والمحبِّ إذا استقبلته فرقةٌ- فهذه مِحَنٌ عظيمةٌ ومصائِبُ فجيعةٌ، فكما قيل‏:‏

فَلأَبْكِيَنَّ على الهلالِ تأسُّفاً *** خوفَ الكسوفِ عليه قبل تمامه

فما هو إلا أَنْ تُكْشَفُ شَمْسهُم، وينطفِئَ- في الليلة الظلماءِ- سِرجُهم، ويتشتَّتَ من السماء نجومِهم، ويصيبَ أزهارَ أنْسِهم وربيعَ وَصْلِهم إعصارٌ فيه بلاءٌ شديدٌ، وعذابٌ أليم، فإنَّ الحقَّ- سبحانه إذا أراد بقوم بلاءً فكما يقوله‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئَدَتَهُم وَأَبْصَارَهُمْ كَمَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 10‏]‏ فإِنَّ آثارَ سُخْطِ الملوكِ مُوجِعةُ، وقصةَ إعراضِ السلطانِ مُوحِشَةٌ وكما قيل‏:‏

والصبر يَحْسُنُ في المواطن كلها *** إلا عليكَ- فإنَّه مذمومٌ

هنالك تنسكب العَبَرَاتُ، وتُشَق الجيوب، وتُلْطَم الخدود، وتُعطَّلُ العِشار، وتخَرَّبُ المنازلُ، وتسودُّ الأبواب، وينوح النائح‏:‏

وأتى الرسول فأخ *** بر أنهم رحلوا قريبا

رجعوا إلى أوطانهم *** فجرى لهم دمعي صبيبا

وتركن ناراً في الضلوع *** وزرعن في رأسي مشيبا

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏‏.‏

بلاءُ كلِّ واحدٍ على ما يليق بحاله؛ فمن كان بلاؤه بحديث النَّفْسِ أو ببقائه عن هواه، وبحرمانه لكرائمه في عُقْباه فاسمُ البلاءِ في صفته مَجَازٌ، وإنما هذا بلاء العوام‏.‏ ولكنَّ بلاَءَ هذا غيرُ الكرامِ فهو كما قيل‏:‏

مَنْ لم يَبِتَ- والحبُّ مِلْءُ قؤادِه *** لم يَدْرِ كيف تَفَتُّتُ الأكبادِ

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

ليست واقعةُ القوم بخسرانٍ يُصيبهم في أموالهم، أو من جهة تقصيرهم في أعمالهم ولِمَا صنيَّعوه من أحوالهم‏.‏‏.‏ فهذه- لعمري- وجوهٌ وأسبابٌ، ولكنَّ سِرَّ القصةِ كما قيل‏:‏

أنَا صَبٌّ لِمَنْ هَوَيْتُ ولكن *** ما احتيالي بسوء رأي الموالي‏؟‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏‏:‏ لو شاء الله سَعَادَتَهمُ لَرَحِمَهُم، وعن المعاصي عَصَمَهُم، وبدوامِ الذكر- بَدَلَ الغفلة- ألهمهم *** ولكن سَبَقَتْ القسمةُ في ذلك، وما أحسن ما قالوا‏:‏

شكا إليك ما وَجَدْ *** مَنْ خانه فيك الجَلَدْ

حيرانُ‏.‏‏.‏ لو شِئْتَ اهتدى *** ظمآنُ‏.‏‏.‏ لو شِئْتَ وَرَدْ

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏94‏)‏‏}‏

أَبعَدَكُم عَدَمُ صِدْقِكم في إيمانِكم عن تحقُّقكم ببرهانكم، لأنكم وقفتم على حَدِّ التردد دون القطع والتعيين، فأفضى بكم تردُّدُكم إلى أوطانِ شِرْككُم، إذ الشكُّ في الله والشِّركُ به قرينان في الحُكْم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

لا تختاروا على القيام بحقِّ اللَّهِ والوفاءِ بعهده عِوَضَاً يسيراً مما تنتفعون به من حُطام دنياكم من حلالكم وحرامكم، فإنَّ ما أعدَّ اللَّهُ لكم في جناته- بشرط وفائكم لإيمانكم- يوفي ويربو على ما تتعجلون به من حظوظكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

الذي عندكم عَرَضٌ حادث فانٍ، والذي عند الله من ثوابكم في مآلِكُم نِعَمٌ مجموعةٌ، لا مقطعوعةٌ ولا ممنوعة‏.‏

ويقال ما عندكم أو ما منكم أو مالكم أفعالٌ معلولة وأحوالٌ مدخولة، وما عند الله فثوابٌ مقيمٌ ونعيمٌ عظيمٌ‏.‏

ويقال ما منكم من معارفكم ومحابكم آثارٌ متعاقبةٌ، وأصناف متناوبة، أعيانُها غيرُ باقية وإنكات أحكامُها غير باطلة والذي يتصف الحقُّ به من رحمته بكم ومحبته لكم وثباته عليكم فصفاتُ أزلية ونعوتٌ سرمدية‏.‏

ويقال ما عندكم من اشتياقكم إلى لقائنا فَمُعرَّضُ للزوال، وقابلٌ للانقضاء، وما وَصَفْنَا به أَنْفُسَا من الإقبال لا يتناهي وأفضال لا تفْنى، كما قيل‏:‏

ألا طال شوقُ الأبرار الى لقائي *** وإني للقائهم لأَشَدُّ شوقا

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ جزاءُ الصبر الفوزُ بالطِّلْبَةِ، والظَّفَرُ بالبُغية‏.‏ ومآلهم في الطلبات يختلف‏:‏ فَمَنْ صَبَرَ على مقاساة مشقةٍ في الله‏.‏ فعِوضُه وثوابُه عظيمٌ من قِبَل الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

ومَنْ صبر عن اتباع شهوةٍ لأَِجْل الله، وعن ارتكاب هفوةٍ مخافةً لله فجزاؤه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقًّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 57‏]‏‏.‏

ومَنْ صبر تحت جريان حُكْمِ الله، متحققاً بأنه بِمَرْآةٍ من الله فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 153‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

الصالح ما يصلح للقبول، والذي يصلح للقبول ما كان علىلوجه الذي أمر الله به‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحاً‏}‏‏:‏ في الحال، ‏{‏فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‏}‏‏:‏ في المآل؛ فصفَاءُ الحالِ يستوجِبُ وفاءَ المآلِ، والعملُ الصالحُ لا يكون من غير إيمان، ولذا قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏‏.‏

ويقال ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ أي مصدِّقٌ بأن إيمانه من فضل الله لا بعمله الصالح‏.‏ ويقال ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ أي مصدِّقٌ بأن عمله بتوفيق الله وإنشائه وإبدائه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‏}‏‏:‏ الفاء للتعقيب، ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الواو للعطف ففي الأولى مُعَجَّل، وفي الثانية مؤجَّل، ثم ما تلك الحياة الطيبة فإنه لا يُعْرَف بالنطق، وإنما يعرف ذلك بالذوق؛ فقوم قالوا إنه حلاوة الطاعة، وقوم قالوا إنه القناعة، وقوم قالوا إنه الرضا، وقوم قالوا إنه النجوى، وقوم قالوا إنه نسيم القرب *** والكل صحيحٌ ولكلِّ واحدٍ أهل‏.‏

ويقال الحياة الطيبة مايكون مع المحبوب، وفي معناه قالوا‏:‏

نحن في أكمل السرور ولكنْ *** ليس إلا بكم يَتِمُّ السرورُ

عَيْبُ ما نحن فيه يا أهلَ ودِّي *** أنكم غُيِّبٌ ونحن حُضُورُ

ويقال الحياة الطيبة للأَولياء ألا تكون لهم حاجةٌ ولا سؤالٌ ولا أَرَبٌ ولا مُطَالَبَةٌ وفرقٌ بين من له إرادة فتُرْفَع وبين من لا إرادةَ له فلا يريد شيئاً، الأولون قائمون بشرط العبودية، والآخرون مُعْتَقُون بشرط الحرية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏98‏)‏‏}‏

شيطانُ كُلِّ واحدٍ ما يشغله عن ربه، فمن تَسَلَّطَتْ عليه نَفْسُه حتى شَغَلَتْه عن ربه ولو بشهود طاعةٍ أو استحلاءِ عبادة أو ملاحظةِ حال- فذلك شيطانُه‏.‏ والواجبُ عليه أن يستعيذَ بالله من شرِّ نَفْسِه، وشرِّ كل ذي شر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

أنَّى يكون للشيطانِ سلطانُ على العبد والحقُّ- سبحانه- متفرِّدٌ بالإبداع، متوحِّدٌ بالاختراع‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

إنما سلطانُه على الذين هم في غطاء غفلتهم، وستر ظنونهم ومشتبهاتهم‏.‏ فأمَّا أصحاب التوحيد فإنهم يرون الحادثاتِ بالله ظهورُها، ومن اللَّهِ ابتداؤها، وإلى الله مآلها وانتهاؤها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏

‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

ما زادوا في طول مدتهم إلا شكاً على شكٍ، وجحدوا على جحدٍ، وجرَوْا على منهاجهم في التكذيب، فلم يُصَدِّقوه صلى الله عليه وسلم، وما زادوا في ولايته إلا شكاً ومُرْية‏:‏

وكذا الملولُ إذا أَرَادَ قطيعةً *** مَلَّ الوصال وقال كان وكانا

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالحَقِّ‏}‏‏:‏ ردٌّ على فرط جهلهم بربهم، وبُعْدِ رتبتهم عن التحصيل، فلمَّا كانوا متفرقين في شهود المَلِكِ رُدُّوا في حين التعريف إليهم بِذِكْرِ المَلَكِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

لم يستوحش الرسولُ- صلى الله عليه وسلم- من تكذيبهم، وخفاءِ حاله وقَدْرِه عليهم‏.‏‏.‏ وأيُّ ضررِ يلحق مَنْ كانت مع السلطان مُجَالَسَتُه إذا خَفِيَتَ على الأَخسِّ مِنَ ابرعيةِ حالتُه‏؟‏

ثم إنه أقام الحجةَ في الردِّ عليهم حيث قال‏:‏ ‏{‏لِسَانُ الذِّى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ‏}‏‏:‏ فَمِن فَرْطِ جهلهم توهموا أنَّ القرآنَ- الذي عجز كافةُ الخَلْق عن معارضته في فصاحته بلاغته- مقولٌ وحاصلٌ باتصاله بِمَنْ هو أعجمي النطق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏‏}‏

إنَّ منْ سَبَقَتْ بالشقاوة قسمتُه لم تتعلق من الحق- سبحانه- به رحمتُه، ومَنْ لم يَهْدِهِ اللَّهُ في عاجله إلى معرفِته لا يهديه اللَّهُ في آجِلِه إلى جنته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

هذا من لطائف المعاريض؛ إذ لمَّا وصفوه- عليه السلام- بالافتراء أنار الحقُّ- سبحانه- في الجواب، فقال‏:‏ لستَ أَنت المفترِي إنما المفترِي مَنْ كذَّبَ معبودَه وجَهِلَ توحيدَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

إذا عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ عبده بقلبه، وإخلاصَه في عَقْدِه، ولحقته ضرورة في حاله خَفَّفَ عنه حُكْمَه، ودَفَع عنه عناءَه فلا يَلْفِظُ بكلمة الكفر إلا مُكْرَهاً- وهو مُوَحِّدٌ، وهو مستحقٌ العُذْرَ فيما بينه وبين الله تعالى *** وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم، وتجردوا لسلوكِ طريق الله ثم عَرَضَتْ لهم أسبابٌ، واتفقت لهم أعذارٌ، كأن يكون لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ أو إلى شيءٍ من العلوم رجوعٌ *** لم يكن ذلك قادحاً في صحة إرادتهم، ولا يُعَدُّ ذلك فسخاً لعهودهم، ولا ينفي بذلك عنهم سِمَةَ القَصْدِ إلى الله تعالى‏.‏

أَمَّا ‏{‏مَّن شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْراً‏}‏‏:‏ فرجع باختياره، ووضع قَدَماً- كان قد رَفَعَه في طريق الله- بِحُكْمِ هواه فقد نَقَضَ عهْدَ إرادته، وفَسَخَ عقده، وهو مستوجب ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ تتداركه الرحمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

إذا تمادى في غفلته، ولم يتدارك حالَه بملازمةِ حَسْرَتِه، ازداد قسوةً على قسوة، ولم يستمتع بما هو فيه من قوة، وكما قال جل ذكره‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

هم في الآخرة محجوبون، وبِذُلِّ البعد موسومون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

ومَنْ صَبَرَ حين عزم الأمر، ولم يجنح إلى جانب الرُّخَصِ، وأخذ في الأمور بالأشَقِّ أكرم اللَّهُ حَقِّه، وقرَّب مكانَه، ولَقَّاه في كل حالةِ بالزيادة، وربحت صفقتُه حين خسِرَ أشكالُه، وتَقَدَّم على الجملة وإِنْ قَلَّ احتيالُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

غداً كلٌّ مشغولٌ بنْفسه، ليس له فراغ إلى غيره‏.‏ وعزيزٌ لا يشتغل بنفسه، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كان بحالٍ لقي الله بها» إنما يكون الفارغ غداً من كان اليوم فارغاً، ويجادل عن نفسه من كان له اليوم اهتمامٌ بنفسه‏.‏ والمؤمن لا نَفْسَ له؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ اشتراها الحقُّ منهم، وأودعها عندهم، فليس لهم فيها حق، وإنما يراعون فيها أمرَ الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

فراغ القلبِ من الاشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر عبدٌ بهذه النعمة بأَن فتح على نَفْسِه بابَ الهوى، وانجرف ففي فساد الشهوة، شَوَّشَ الله عليه قلبه، وسَلَبَه ما كان يَجِدُه من صفاء وقته؛ لأنَّ طوارقَ النفسِ تُوجِبْ غروبَ شوارقِ القلب، وفي الخبر‏:‏ «إذا أقبل الليلُ من ها هنا أدبر النهارُ من ها هنا» وكذلك القلبُ إذا انقطع عنه معهودُ ما كان الحقُّ أتاحه له أصابه عطَشٌ شديد ولهبٌ عظيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

كما جاءهم الرسولُ جهراً فإنه تتأدَّى إليهم منْ قِبَل خواطرهم إشاراتٌ تترى، فمَنْ لم يستجِبْ لتلك الإشارات بالوفاق والإعتاق أخذه العذابُ من حيث لا يشعر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

الحلالُ الطيبُ ما يتناوله العبدُ على شريطة الإذن بشاهد الذكر على قضية الأدب في ترك الشبهة، وحقيقةُ الشكر على النعمةِ الغيبةُ عن شهودِ النعمة بالاستغراق في شهود المنعِم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

يُبَاحُ تناولُ المحرماتِ عند هجوم الضرورات حسب بيان الشرع، ولا يُرَخَّصُ في ذلك إلا على أوصاف مخصوصة، وبِقَدْرِ ما يَسُدُّ الرَّمق، كذلك عند استهلاكِ العبدِ بغلبات الحقيقة لا بدّ من رجوعه إلى حال الصحو بقدر ما يؤدى الفرض الواجب عليه، صم لا يُمكّن من التعريج في أَوْطان التفرقة والتمييز بعد مضي أوقات الصحو من أجل أداء الشرع، كما قيل‏:‏

فإنْ تَكُ منه غيبة بعد غيبةٍ *** فإنَّ إليه بالوجود إيابي

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏116‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏

الصدق في كل شيء أَوْلَى من الكذب، وكثيرٌ من أقوالهم في الاعتراض عَيِّناتُ من الكذب‏.‏

والصِّدِّيق لا يكذب صريحاً، ولا يتداول أقوال كاذب مهين‏.‏ وصاحبُ الكذبِ تظهر عليه المذَلَّةُ لما هو فيه من الزّلَّةِ، وله في الآخرة عذاب أليم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

بيَّن أنه أوضح لِمَنْ تَقَدَّمَ الحلالَ والحرامَ، فمنهم مَنْ أتى بما أُمِرَ به ومنهم مَنْ خالف‏.‏‏.‏ وكلٌّ عُومِل بما استوجبه؛ فمن أطاع قلبُه قرَّبَه، ومَنْ عَصَى رَدَّه وحَجَبَه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 119‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏119‏)‏‏}‏

إذا نَدِمُوا على قبيح ما قَدَّمُوا، وأَسِفُوا على كثيرٍ مما أسلفوا وفيه أسرقوا، ومَحَا صِدْقُ عَبْرَتِهم آثارَ عَثْرَتِهم- نظَرَ اللَّهُ إليهم بالرحمة، فتابَ عليهم إذا أصلحوا، ونجَّاهم إذا تضرَّعوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 120‏]‏

‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

قيل آمن بالله وحدَه فقام مقام الأمة، وفي التفسير‏:‏ كان معلِّماً- للخير- لأمةٍ‏.‏

ويقال اجتمع فيه من الخصال المحمودة ما يكون في أمةٍ متفرقاً‏.‏

ويقال لمَّا قال إبراهيمُ لكلِّ ما رآه‏:‏ ‏{‏هَذَا رَبِّى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 77‏]‏ ولم ينظر إلى المخلوقات من حيث هي بل كان مُسْتَهْلَكاً في شهودِ الحقِّ، ورأى الكوْنَ كُلَّه بالله، وما ذكر حين ذكر غيرَ الله‏.‏‏.‏ كذلك كان جزاء الحق فقال‏:‏ أنت الذي تقوم مقام الكلِّي، ففي القيامِ بحق الله منك على الدوام غُنْيةٌ عن الجميع‏.‏

و «الحنيف»‏:‏ المستقيم في الدِّين، أو المائل إلى الحق بالكلية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 121‏]‏

‏{‏شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏121‏)‏‏}‏

الشاكرُ في الحقيقة- مَنْ يرى عَجْزَه عن شكره، ويرى شُكْرَهُ من الله عزَّ وجل، لِتَحَقُّقِه أنه هو الذي خَلَقَه، وهو الذي وَفَقَّه لشكره، وهو الذي رزقه الشكرَ، وهو الذي اجتباه حتى كان بالكلية له- سبحانه‏.‏

‏{‏وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ أي تحقَّق بأنه عَبْدُه، وأنه رقَّاه إلى محلِّ الأكابر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَءَاتَيْنَاهُ فِى الدَّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏‏.‏

الحسنةُ التي آتاه اللَّهُ هي دوامُ ما آتاه حتى لم تنقطِعْ عنه‏.‏

ويقال هي الخلة‏.‏ ويقال هي النبوة والرسالة‏.‏

ويقال آتيناه في الدنيا حسنةً حتى كان لنا بالكلية، ولم تكن فيه لغير بقية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 123‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ أي الكون بالحق، والامتحاء عن شاهد نفسه؛ فكان نبينا- صلى الله عليه وسلم- في اتباعه إبراهيم مؤْتَمِرَاً بأمر الله‏.‏ وكانت ملةُ إبراهيم- عليه السلام- الخُلُقَ والسخاءَ والإيثارَ والوفاءَ، فاتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم وزاد عليه، فقد زاد على الكافة شأنه، وبانت مَزِيَّتُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

قومٌ حرَّموا العملَ فيه وقومٌ حللوه معصيةً منهم، وقيل جعل الجمعةَ لهم فقالوا‏:‏ لا نريد إلا يومَ السبت‏.‏‏.‏ فهذا اختلافهم فيه‏.‏

والإشارة من ذلك أنهم حادوا عن موجب الأمر، ومالوا إلى جانب هواهم‏.‏ ثم إنهم لم يراعوها حق رعايتها فصار سبب عصيانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

الدعاءُ إلى سبيل الله بحثِّ الناسِ على طاعةِ الله، وزجرهم عن مخالفة أمر الله‏.‏ والدعاءُ بالحكمة ألا يخالفَ بالفعل ما يأمر به الناس بالنطق‏.‏

والموعظة الحسنة ما يكون صادراً عن علمٍ وصوابٍ، ولا يكون فيها تعنيف‏.‏

‏{‏وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏‏:‏ بالحجة الأقوى، والطريقة الأوضح‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏‏:‏ فَشَرْطُ الأمرِ بالمعروف استعمالُ ما تأمر به، والانتهاء عما تنهي عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

إذا جرى عليكم ظُلُمٌ من غيرَكم وأردتم الانتقامَ‏.‏‏.‏ فلا تتجاوزُوا حَدَّ الإذنِ بما هو في حكم الشرع‏.‏

‏{‏وَلَئِن صَبَرْتُمْ‏}‏‏:‏ فتركتم الانتصافَ لأِجْلِ مولاكم فهو خيرُ لكم إِنْ فَعَلْتُمْ ذلك‏.‏ والأسبابُ التي قد يترك لأجلها المرءُ الانتصافَ مختلفة؛ فمنهم من يترك ذلك طمعاً في الثواب غداً فإنه أوفر وأكثر، ومنهم من يترك ذلك طمعاً في أن يتكفَّل اللَّهُ بخصومه، ومنهم من يترك ذلك لأنه مُكْتَفٍ بعلم الله تعالى بما يجري عليه، ومنهم من يترك ذلك لِكَرَم نَفسِه، وتَحرُّرِه عن الأخطار ولاستحبابه العفوَ عند الظَّفَرِ، ومنهم مَنْ لا يرى لنفسه حقاً، ولا يعتقد أَنَّ لأحدٍ هذا الحق فهو على عقد إرادته بِتَرْكِ نَفْسِه؛ فمِلْكُه مُبَاحٌ ودَمَهُ هَدَر‏.‏ ومنهم من ينظرإلى خصمه- أي المتسلط عليه- على أنَّ فِعْلَه جزاءٌ على ما عمله هو من مخالفة أمر الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فِبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ فاشتغاله باستغفاره عن جُرْمِه يمنعه عن انتصافه من خصمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

«واصبر» تكليف، «وما صبرك إلا بالله»‏:‏ تعريف‏.‏ «واصبر» تحققٌ بالعبودية، «وما صبرك إلا بالله» إخبارٌ عن الربوبية‏.‏

«ولا تحزن عليهم‏.‏‏.‏» أي طالِعْ التقدير، فما لا نجعلُ له خطراً عندنا لا ينبغي أن يوجِبَ أثراً فيك، فمَنْ أَسْقَطْنا قَدْرَه فاستَصْغِر أَمْرَه‏.‏ وإذا عرفتَ انفرادَنا بالإيجادِ فلا يضيق قلبُك بشدّة عداوتهم، فإِنَّا ضَمَنَّا كِفايتَك، وألا نُشْمِتَهم بك، وألا نجعلَ لهم سبيلاً إليك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

إن الله معهم بالنصرة، ويحيطهم بالإحسان والبسطة‏.‏

«الذين اتقوا» رؤيَةَ النصْرةِ مِنْ غيره، والذين هم أصحاب التبري من الحَوْلِ والقوة‏.‏

والمحسن الذي يعبد الله كأنه يراه، وهذه حال المشاهدة‏.‏

سورة الإسراء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

افتتح السورةَ بِذِكْرِ الثناء على نَفْسه فقال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏:‏ الحقُّ سبَّحَ نَفْسَه بعزيزِ خطابِه، وأخبر عن استحقاقه لجلال قَدْرِه، وعن توحُّده بعلوِّ نُعُوتِه‏.‏

ولمَّا أراد أَنْ يَعْرفَ العبِادُ خَصَّ به رسولَه- صلى الله عليه وسلم- ليلةَ المعراجِ من عُلوٍّ ما رقَّاه إليه، وعِظَمِ ما لَقَّاه به أَزالَ الأعُجوبةَ بقوله‏:‏ ‏{‏أَسْرَى‏}‏، ونفى عن نبيِّه خَطَرَ الإعجاب بقوله‏:‏ ‏{‏بِعَبْدِهِ‏}‏؛ لأَنَّ مَنْ عَرَفَ ألوهيته، واستحقاقَه لكمالِ العِزِّ فلا يُتَعَجَّبُ منه أن يفعل ما يفعل، ومَنْ عرف عبوديةَ نَفْسِه، وأَنَّه لا يَمْلِكُ شيئاً من أمره فلا يُعْجَبُ بحاله‏.‏ فالآية أوضحت شيئين اثنين‏:‏ نَفَى التعجَّبِ من إظهارِ فِعْلِ اللَّهِ عزَّ وجل، ونفَى الإعجاب في وصف رسول الله عليه السلام‏.‏

ويقال أخبر عن موسى عليه السلام- حين أكرمه بإسماعه كلامه من غير واسطة- فقال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏، وأخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه ‏{‏أَسْرَى بِعَبْدِهِ‏}‏ وليس مَنْ جاءَ بنفْسِه كمنْ أَسْرَى به ربُّه، فهذا مُحتَمَلٌ وهذا محمول، هذا بنعت الفَرْقِ وهذا بوصف الجمع، هذا مُرِيدٌ وهذا مُرَادٌ‏.‏

ويقال جعل المعراجَ بالليل عند غَفْلَةِ الرُّقَبَاءِ وغَيْبَةِ الأجانب، ومن غير ميعاد، ومن غير تقديم أُهْبَةٍ واستعداد، كما قيل‏:‏

ويقال جعل المعراجَ بالليل ليُظْهرَ تصديقَ مَنْ صَدَّقَ، وتكذيبَ مَنْ تعجَّب وكَذَّّبَ أو أنكر وجحد‏.‏

ويقال لما كان تعبُّدهُ صلى الله عليه وسلم وتهجُّدُه بالليل جَعَلَ الحقُّ سبحانه المعراجَ بالليلِ‏.‏

ويقال‏:‏

ليلةُ الوَصْلِ أَصْفَى *** من شهور ودهور سواها‏.‏

ويقال أرسله الحقُّ- سبحانه- ليبتعلَّم أهلُ الأرضِ منه العبادة، ثم رَقَّاه إلى السماءِ ليتعلَّمَ الملائكةُ منه آدابَ العبادة، قال تعالى في وصفه- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏{‏مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 17‏]‏، فما التَفَتَ يميناً وشمالاً، وما طمع في مقامٍ ولا في إكرام؛ تجرَّد عن كلِّ طلبٍ وأَرَبٍ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَآتِنَا‏}‏‏:‏ كان تعريفه بالآيات ثم بالصفات ثم كَشّفٌ بالذات‏.‏ ويقال من الآيات التي أراها له تلك الليلة أنه ليس كمثله- سبحانه- شيءٌ في جلالهِ وجماله، وعِزِّه وكبريائه، ومجده وسنائه‏.‏

ثم أراه من آياته تلك الليلة ما عَرَفَ به صلوات الله عليه- أنه ليس أحدٌ من الخلائق مثْلَه في نبوته ورسالته وعلوِّ حالته وجلال رتبته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

أرسل موسى عليه السلام بالكتاب كما أرسل نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ نَبِيَّنَا- صلوات الله عليه- كان أوفى- سماعاً-؛ فإنَّ الشمسَ في طلوعها وإشراقها تكون أقربَ ممن طلعت له من حقائقها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

أي يا ذريةَ مَنْ حملنا مع نوح- على النداء‏.‏‏.‏ إنه كان عبداً شكوراً‏.‏

وكان يضرب في كل ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ كما في القصة- سبعين مرة، وكان يشكر‏.‏ كما أنه كان يشكر الله ويصبر على قومه إلى أن أوحى الله إليه‏:‏ أنه لن يؤمن إلا من قد آمن، وأُمِرَ حين دعا عليهم فقال‏:‏ ‏{‏رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏

ويقال الشكور هو الذي يكون شكره على توفيقِ اللَّه له لِشُكْرِه، ولا يتقاصر عن شكره لِنِعَمِه‏.‏

ويقال الشكور الذي يشكر بماله، ينفقه في سبيل الله ولا يدََّخِره، ويشكر بنفْسِه فيستعملها في طاعة الله، لا يُبْقِي شيئاً من الخدمة يدخره، ويشكر بقلبِه ربَّه فلا تأتي عليه ساعةٌ إلا وهو يذكره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

القضاءُ ها هنا بمعنى الإعلام، والإشارة في تعريفهم بما سيكون في المُسْتَأنَفِ منهم وما يستقبلهم، ليزدادوا يقيناً إذا لقوا ما أُخْبِروا به، وليكونَ أبلغَ في لزوم الحُجَّةِ عليهم، وليحترزوا من مخالفة الأمر بجحدهم، وليعلموا أن ما سَبَقَ به القضاءُ فلا محالةَ يحصل وإنْ ظُنَّ التباعدُ عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

إن الله سبحانه يُعِدُّ أقواماً لأحوالٍ مخصوصةٍ حتى إذا كان وقتُ إرادته فيهم كان هؤلاء موجودين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

يدلُّ على أنه مُقَدِّرُ أعماله العباد، ومدبِّرُ أفعالِهم؛ فإِنَّ انتصارَهم على أعدائهم من جملة أكسابهم، وقد أخبر الحقُّ أنه هو الذي تولاَّه بقوله‏:‏ ‏{‏رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

إنْ أحسنتُم فثوابِكم كسبتم، وإنْ أسأتم فعداءَكم جَلَبْتُم- والحقُّ أعزُّ مِنْ أَنْ يعودَ إليه من أفعال عبادِه زَيْنٌ أو يلحقه شَيْنٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ‏}‏‏.‏

كلمةُ ‏{‏عَسَى‏}‏ فيها ترجية وإطماع، فهو- سبحانه- وقفهم على حد الرجاء والأمل والخوف والوجل‏.‏

وقوله ‏{‏عَسَى‏}‏‏:‏ ليس فيه تصريح بغفرانهم، ورحمتهم، وإنما فيه للرجاء موجِبٌ قويٌّ؛فبلطفه وعد أن يرحمكم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَأ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلّكَافِرِينَ حَصِيراً‏}‏‏.‏

أي إنْ عُدْتُم إلى الزَّلَّة عُدْنا إلى العقوبة، وإن استقمتم في التوبة عدنا إلى إدامة الفضل عليكم والمثوبة‏.‏

ويقال إن عُدْتُم إِلَى نَقْضِ العَهْد عُدنا إلى تشديد العذاب‏.‏

ويقال‏:‏ إن عُدْتُم للاستجارة عدنا للإجارة‏.‏

ويقال إن عُدتُم إلى الصفاء عدنا إلى الوفاء‏.‏

ويقال إن عُدْتُمْ إلى ما يليق بكم عُدْنا إلى ما يليق بكرمنا‏.‏

‏{‏جَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلّكَافِرِينَ حَصِيراً‏}‏ لأنهم ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وهم ناس كثير فهذه جهنم ومن يسكنها من الكافرين‏.‏

و ‏{‏حَصِيراً‏}‏ أي محبساً ومصيراً‏.‏ فالمؤمنُ- وإنْ كان صاحبَ ذنوب وإنْ كانت كبيرة- فإنَّ مَنْ خرج من دنياه على إيمانه فلا محالةَ يصل يوماً إلى غفرانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

القرآنُ يدل على الحقِّ والصواب‏.‏ و‏{‏أَقْوَمُ‏}‏‏:‏ هنا بمعنى المستقيم الصحيح كأكبر بمعنى الكبير؛ فالقرآن يدل على الحق والصواب، ولكنَّ الخللَ من جهة المُسْتَدِلِّ لا الدليل، إذ قد يكون الدليل ظاهراً ولكنَّ المستدِلَّ مُعْرِضُ، وبآداب النظر مُخِلٌّ، فيكون العيبُ في تقصيره لا في قصور الدليل‏.‏

والقرآنُ نورٌ؛ مَنْ استضاء به خَلَصَ من ظُلُماتِ جَهْلِه، وخرج من غمار شَكِّه‏.‏ ومَنْ رَمَدَتُ عيونُ نظرِه التبس رُشْدُه‏.‏

ويقال الحَوَلُ ضَرَرُه أشدُّ من العَمَى؛ لأَنَّ الأعمى يعلم أنه ليس يُبْصِر فَيَتْبَعُ قائدَه، ولكن الأحول يتوهَّمُ الشيء شيئين نفهو بتخيُّلِه وحسبانه يماري مَنْ كان سليماً‏.‏‏.‏ كذلك المبتدِعُ إذا سَلَكَ طريقَ الجَدَل، ولم يضع النظر موضعهه بَقِيَ في ظُلُماتِ جَهْلِه، وصال بباطل دعواه على خَصْمِه، كما قيل‏:‏

بأطرافِ المسائلِ كيف يأتي‏.‏‏.‏‏.‏- ولا أَدْرِي لَعَمْرُكَ- مُبْطِلُوها‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

من الأدب في الدعاء أََلاَّ يسألَ العبدُ إلاَّ عند الحاجة، ثم ينظر فإنْ كان شيءٌ لا يعنيه ألا يتعرَّضَ له؛ فإنَّ في الخبر‏:‏ «مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ثم من آداب الداعي إذا سأل من اللَّهِ حاجَته ورأى تأخيراً في الإجابة إلا يَتَّهَم الحقَّ- سبحانه- ويجب أن يعلم أن الخير في ألا يجيبَه، والاستعجالُ- فيما يختاره العبد- غيرُ محمود، وأوْلى الأشياءِ السكونُ والرضا بحُكْمِه سبحانه، إن لم يساعدْه الصبر وسَأَلَ فالواجبُ تَرْكُ الاستعجال، والثقةُ بأنَّ المقسومَ لا يفوته، وأَنَّ اختيارَ الحقِّ للعبد خيرٌ له من اختياره لنفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

جعل الليلَ والنهارَ علامةً على كمال قدرته، ودلالةً على وجوب وحدانيته؛ في تعاقبهما وتناوبهما، وفي زيادتهما ونقصانهما‏.‏

ثم جعلهما وقتاً صالحاً لإقامة العبادة، والاستقامة على معرفة جلال إلهيته؛ فالعبادةُ شرطُها الدوامُ والاتصال، والوظائف حقُّها التوفيق والاختصاص‏.‏

ولو وقع في بعض العبادات تقصيرٌ أو حَصَلَ في أداءِ بعضِها تأخيرٌ تَدَارَكَه بالقضاءِ حتى يَتَلاَفَى التقصير‏.‏

ويقال من وجوه الآيات في الليل والنهار إفرادُ النهار بالضياء من غير سبب، وتخصيصُ الليل بالظلام بغير أمرٍ مكتسب، ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً‏}‏‏:‏ وهو اختلاف أحوال القمر في إشراقه ومحاقة، فلا يبقى ليلتين على حال واحدة، بل هو في كل ليلة في منزل آخر، إما بزيادة أو بنقصان‏.‏

وأمَّا الشمس فحالها الدوام‏.‏‏.‏ والناس كذلك أوصافهم؛ فأربابُ التمكين الدوامُ شرطُهم، وأصحابُ التلوينِ التنقلُ حَقُّهم، قال قائلهم‏:‏

ما زلت أنزل من ودادك منزلاً *** تتحير الألبابُ دون نزوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

ألزم كلَّ أحدٍ ما لَبِسَ بجِيدِه‏.‏ فالذين هم أهلُ السعادة أسرج لهم مركبَ التوفيقَ، فيسير بهم إلى ساحات النجاة، والذين هم أهل الشقاوة أركبهم مَطِيَّةَ الخذلان فأَقْعَدَتْهم عن النهوض نحو منهج الخلاص، فوقعوا في وَهْدَةِ الهلاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

مَنْ ساعَدَتْه العنايةُ الأزليةُ حِفظَ عند معاملاته مما يكون وبالاً عليه يوم حسابه، ومَنْ أبلاه بحْكْمِه رَدَّه وأهمْهَلَه، ثم تركه وعَمَلَه، فإذا استوفى أَجَلَه عرف ما ضيَّعَه وأهمله، ويومئذ يُحْكُمِه في حالِ نفسه، وهو لا محالةَ يحكم بنفسه باستحقاقه لعذابه عندما يتحقق من قبيح أعماله *** فكم من حسرةٍ يتجرَّعُها، وكم من خيبةٍ يتلقَّاها‏!‏

ويقال مَنْ حَاسَبَه بكتابه فكتابةُ مُلازِمُه في حسابه فيقول‏:‏ رَبِّ‏:‏ لا تحاسبني بكتابي‏.‏‏.‏ ولكن حاسِبْنِي بما قلتَ‏:‏ إِنَّكَ غافرُ الذَّنْبِ وقابلُ التوبِ‏.‏‏.‏ لا تعاملني بمقتضى كتابي‏:‏ ففيه بواري وهلاكي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏‏.‏

قضايا أعمال العبد مقصورةٌ عليه؛ إنْ كانت طاعةً ففضياؤها لأصحابها، وإنْ كانت زَلَّةً فبلاؤها لأربابها‏.‏ والحقُّ غنيٌّ مُقَدَّسٌ، أَحَدِيٌّ مُنَزَّهٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏‏.‏

كُلُّ مُطَالَبٌ بجريرته‏.‏ وكلُّ نَفْسٍ تحمل أوزارها لا وِزْرَ نَفْسٍ أخرى *** ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏‏:‏ دلَّ ذلك على أن الواجبات إنما تَتَوَجَّهُ من حيث السمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

إذا كَثُرَ أهلُ الفسادِ غَلَبُوا، وقَلَّ أهل الصلاح وفقدوا‏:‏ فعند ذلك يغمر اللَّهُ الخَلْقَ ببلائه، ولا يكون للناس ملجأ من أوليائه ليتكلموا في بابهم، ولا فيهم من يبتهل إلى اله فَيُسْمَعُ دعاؤه، فَيَخْتَرِمُ أولياءَه، ويُبْقِي أربابَ الفساد، وعند ذلك يشتدُّ البلاءُ وتَعْظُمُ المِحَنُ إلى أن ينظرَ اللَّه تعالى إلى الخَلْق نَظَرَ الرحمةِ والمِنَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

في الآية تسليةٌ للمظلومين إذا استبطأوا هلاكَ الظالمين، و‏(‏‏.‏‏.‏‏)‏ قِصَرِ أيديهم عنهم‏.‏ فإذا فَكَّروا فيما مضى من الأُمم أمثالِهم وكيف بَنَوْا مَشِيداً، وأَمَّلُوا بعيداً‏.‏‏.‏ فبادوا جميعاً، يعلمون أَنَّ الآخرين- عن قريب- سينخرطون في سلكهم، ويُمْتَحَنُون بمثل شأنهم‏.‏ وإذا أظَلّتْهُم سُحُبُ الوحشة فاءوا إلى ظل ِّ شهود التقدير، فتزول عنهم الوحشة، وتطيب لهم الحياةُ، وتحصل الهيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

مَنْ رَضِيَ بالحظ الخسيس من عاجل الدنيا بَقِيَ عن نفيس الآخرة، ثم لا يحظى إلا بِقَدْر ما اشْتَمَّهُ، ثم يكون آنسَ ما به قلباً وأشدَّ ما يكون به سكوناً *** ثم يُخْتَطَفُ عن نعمته، ولا يخصه بشيءٍ مما جمع من كرائمه، ويمنعه من قربه في الآخرة‏.‏‏.‏ ولقد قيل‏:‏

يا غافلاً عن سماع الصوتْ *** إنْ لم تبادِرْ فهو الفوتْ

مَنْ لم تَزُلْ نعمته عاجلاً *** أزاله عن نعمته الموتْ

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

علامة مَنْ أراد الآخرةَ- على الحقيقة- أن يسعى لها سَعْيْها؛ فإرادةُ الآخرة إذا تجرَّدَتْ عن العمل لها كانت مجرَّد إرادة، ولا يكون السعيُ مشكوراً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏‏:‏ أي من المآلِ كما أنه مؤمِنٌ في الحال‏.‏ ويقال وهو مؤمن أنَّ نجاته بفضله لا بسببه‏.‏

‏{‏فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً‏}‏ أي مقبولاً، ومع القبول بكون التضعيف والتكثير؛ فكما أن الصدقة يُرْبِيها كذلك طاعةُ العبدِ يُكْثِّرُها ويُنَمِّيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

يجازي كلاً بِقَدْرِهِ؛ فَلِقَوْمٍ نجاة ولقومٍ درجات، ولقوم سلامة ولقومٍ كرامة، ولقومٍ مثوبتُه، ولقومٍ قربتُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

التفضيلُ على أقسام، فالعُبَّاد فَضَّلَ بعضَهم على بعض ولكن في زكاء أعمالهم، والعارفون فَضَّلَ بعضَهم على بعض ولكن في صفاء أحوالهم، وزكاء الأعمال بالإخلاص، وصفاء الأحوال بالاستخلاص؛ فقومٌ تفاضلوا بصدق القَدَمِ، وقوم تفاضلوا بعلوِّ الهِمَم‏.‏ والتفضيل في الآخرة أكبر‏:‏ فالعُبَّادُ تفاضلهم بالدرجات، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنكم لَتَرَوْنَ أهلَ عِلَّيين كما ترون الكوكبَ الدريَّ في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم»‏.‏

وأهلُ الحضرةِ تفاضلُهم بلطائفهم من الأُنْس بنسيم القربة بما لا بيانَ يصفه ولا عبارة، ولا رمز يدركه ولا إشارة‏.‏ منهم من يشهده ويراه مرةً في الأسبوع، ومنهم من لا يغيب من الحضرة لحظة، فهم يجتمعون في الرؤية ويتفاوتون في نصيبِ كلِّ أحد، وليس كلُّ مَنْ يراه بالعين التي بها يراه صاحبه، وأنشد بعضهم‏:‏

لو يسمعون- كما سمعتُ حديثها *** خَرَّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وسجودا

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

الذي أشرك بالله أصبح مذموماً من قِبَلِ الله، ومخذولاً من قِبَلِ مَنْ عَبَدَه من دون الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

أمَرَ بإفراده- سبحانه- بالعبادة، وذلك بالإخلاص فيما يستعمله العبدُ منها، وأن يكون مغلوباً باسيلاء سلطانِ الحقيقةِ عليه بما يَحْفَظُه عن شهودِ عبادته‏.‏

وأَمَرَ بالإحسان إلى الوالدين ومراعاةِ حقِّهما، والوقوفِ عند إشارتهما، والقيام بخدمتهما، وملازمة ما كان يعود إلى رضاهما وحُسْنِ عشرتهما ورعاية حُرْمَتهما، وألا يبديَ شواهدَ الكسلِ عند أوامرهما، وأن يَبْذُل المُكْنَةَ فيما يعود إلى حفظ قلوبهما *** هذا في حال حياتهما، فأمَّا بعد وفاتهما فبِصِدْقِ الدعاء لهما، وأداءِ الصَدَقَةِ عنهما، وحِفْظِ وصيتهما على الوجه الذي فَعَلاَه، والإحسان إلى مَنْ كان مِنْ أهلِ ودِّهما ومعارفهما‏.‏

ويقال إِنَّ الحقَّ أَمَرَ العبادَ بمراعاة حقِّ الوالدين وهما من جنس العبد‏.‏‏.‏ فَمَنْ عجز عن القيام بحِّق جنسه أَنَّى له أن يقومَ بحقِّ ربه‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَاخْفِضْْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ‏}‏ بحسن المداراة ولين المنطق، والبدار إلى الخدمة، وسرعة الإجابة، وترك البَرَمَ بمطالبهما، والصبر على أمرهما، وألا تَدَّخِرَ عنهما ميسوراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

إذا عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ قلبِ عبدٍ أَمَدَّه بحسن الأمجاد، وأكرمه بجميل الامتداد، ويَسَّر عليه العسيرَ من الأمور، وحفظه عن الشرور، وعطف عليه قلوب الجمهور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

إيتاءُ الحقِّ يكون من المال ومن النَّفْس ومن القول ومن الفعل، ومَنْ نَزَل على اقتضاء حقِّه، وبذل الكُلَّ لأجل ما طالبه به من حقوق‏.‏ فهو القائم بما ألزمه الحقُّ سبحانه بأمره‏.‏

والتبذيرُ مجاوزةُ الحدِّ عمَّا قدَّره الأمرُ والإذنُ‏.‏ وما يكون لحظِّ النَّفْسِ- وإن كان سمسمة- فهو تبذيرٌ، وما كان له- وإن كان الوفاءَ بالنَّفْس- فهو تقصيرٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

إنما كانوا إخوانَ الشياطين لأنهم أنفقوا على هواهم، وجَرَوْا في طريقهم على دواعي الشياطين ووساوسهم، ولمَّا أفضى بهم ذلك إلى المعاصي فقد دعاهم إخوانَ الشياطين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

إن لم يُسَاعِدْكَ الإمكانُ على ما طالبوكَ من الإحسان فاصْرِفْهم عنكَ بوعدٍ جميلٍ إن لم تُسْعِفهم بنقدٍ جزيل‏.‏‏.‏ وإنَّ وَعْدَ الكرام أَهْنأُ من نقد اللئام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

لا تُمْسِكْ عن الإعطاء فَتُكْدِي، ولا تُسْرِفْ في البذلِ بكثرة ما تُسْدِي، واسْلُكْ بين الأمرين طريقاً وَسَطاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

إذا بَسَطَ لا تَبْقَى فاقة، وإذ قبض استنفد كلَّ طاقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

مَنْ عَرَفَ أَنَّ الرازقَ هو الله خفَّ عن قلبه همُّ العيال- وإنْ كَثُروا، ومن خفي عليه أنه قَسَّمَ- قبل الخَلْقِ- أرزاقَهم تطوح في متاهات مغاليطه، فيقع فيها بالقلب والبَدَنِ ثم لا يكون غير ما سبق به التقدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

ترَّجحَ الزنا على غيره من الفواحش لأن فيه تضييعَ حُرْمَةِ الحقِّ، وهتكَ حُرْمَةِ الخلْق، ثم لِمَا فيه من الإخلال بالنَّسَبِ، وإفسادِ ذات البين من مقتضى الأَنَفَةِ والغضب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

لا يجوز قَتْلُ نَفْسِ الغير بغير الحق، ولا للمرء أن يقتل نَفْسَه أيضاً بغير الحق‏.‏ وكما أنَّ قتلَ النَّفْس بالحديد وما يقوم مقامه من الآلات مُحَرَّمٌ فكذلك القَصْدُ إلى هلاكِ المرءِ مُحَرَّمٌ‏.‏

ومن انهمك في مخالفة ربه فقد سعى في هلاك نفسه‏.‏ ‏{‏وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَانَاً‏}‏‏:‏ أي تسلطاً على القاتل في الاقتصاص منه، وعلى معنى الإشارة‏:‏

إلى النصرة مِنْ قِبَلِ الله‏:‏ ومنصورُ الحقِّ لا تنكسر سِنَانُه، ولا تطيشُ سِهَامُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

لمَّا لم يكن لليتيم مَنْ يهتم بشأنه أَمَرَ- سبحانه- الأجنبيَّ الذي ليس بينه وبين اليتيم سَبَبٌ أَنْ يتولَّى أمرَه، ويقومَ بشأنِ، وأوصاه في بابه؛ فالصبيُّ قاعد بصفة الفراغ والهوينى، والوليُّ ساع بمقاساة العَنَا‏.‏

فأَمْرُ الحقِّ- سبحانه- للوليِّ أَحْظَى للصبيِّ مِنْ شفقةِ آلِه عليه في حال حياتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

كما تدين تدان، وكما تعامِلُ تُجازَى، وكما تكيل يُكَالُ لكَ، وكما تكونون يكون عليكم، ومَنْ وَفَى وفَوْا له، ومَنْ خان خانوا معه، وأنشدوا‏:‏

أسَأْنا فساءوا‏.‏‏.‏ عَدْلٌ بلا حيفٍ *** ولو عَدَلْنا لَخُلِّصْنا من المِحَنِ

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

إذا غَلَبتْ عليكَ مُجوّزَاتُ الظنونِ، ولم يُطْلِعْكَ الحقُّ على اليقين فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان، وإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ من أحكام الوقت فارجعْ إلى الله، فإِنْ لاحَ لقلبك وَجْهٌ من الدليل على حَدِّ الالتباس فَكِلْ عِلْمَه إلى الله، وِقفْ حيثما وقفت‏.‏

ويقال الفرق بين من قام بالعلم وبين من قام بالحق أَنَّ العلماءَ يعرفون الشيءَ أولاً ثم يعلمون بعلمهم، وأصحابُ الحقِّ يجْرِي عليهم يحكم التصريف شيءٌ لا علِمَ لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يُكشَف لهم وجهُه، وربما يجري على ألسنتهم شيءٌ لا يدرون وَجْهَه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهانُ ما قالوه، ودليلُ ما نطقوا به من شواهد العلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ السَّمَعَ وَالبَصَرَ‏}‏ هذه أمانة الحق- سبحانه- عند العبد، وقد تقدم في بابها بما أوضحته ببراهين الشريعة‏.‏

ومَنْ استعمل هذه الجوارح في الطاعات، وصانها عن استعمالها في المخالفات فقد سَلَّم الأمانة علة وصف السلامة، واستحق المدحَ والكرامة‏.‏ مَنْ دَنَّسَها بالمخالفات فقد ظهرت عليه الخيانة، واستوجب الملامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

الخُيَلاءُ والتجبُّر، والمدح والتكّبُر- كل ذلك نتائجُ الغيبة عن الذكر، والحجبة عن شهود الحقِّ؛ «فإنَّ اللَّهَ إذا تجلَّى لشيءٍ خشع له» بذلك وَرَدَ الخبر‏.‏ فأمَّا في حال حضورِ القلبِ واستيلاءِ الذكر وسلطان الشهود‏.‏ قالقلبُ مُطْرِقٌ، وحُكْمُ الهيبة غالِبٌ‏.‏ ونعتُ المدحِ وصفةُ الزَّهْوِ وأسبابُ التفرقة- كل ذلك ساقط‏.‏

والناسُ- في الخلاص من صفة التكبر- أصنافٌ‏:‏ فأصحابُ الاعتبار إِذْ عرفوا أنهم مخلوقونَ من نطلفةٍ أمشاج، وما تحمله أبدانهم مما يترشح من مسامهم من بقايا طعامهم وشرابهم‏.‏‏.‏ تعلو هِمَمُهم عن التضييق والتدنيق، ويَبْعُدُ عن قلوبهم قيامُ أَخْطارٍ للأشياء، ولا يخطر على داخلهم إلا ما يزيل عنهم التكبر، وينزع عنهم لباس التجبُّر‏.‏

وأمَّا أرباب الحضور فليس في طلوع الحق إلا انخناس النَّفْس، وفي معناه قالوا‏:‏

إذا ما بدا لي تَعاظَمْتُه *** فأصدر في حال من لم يرد

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

إذا سَعِدَتْ الأقدامُ بحضور ساحاتِ الشهود، وعَطِرَتْ الأسرارُ بنسيم القُُرْب تجرَّدَتْ الأوقاتُ عن الحجبة، واستولى سلطان الحقيقة، فيحصل التنفِّي من هذه الأوصاف المذمومة‏.‏

وقال تعالى لنبيِّه‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ‏}‏‏:‏ بالوحي والإعلام، ولأوليائه تعريف بحكم الإلهام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

جَوَّزوا أن يكون لله- سبحانه- ولدٌ، وفكَّروا في ذلك، ثم لم يَرْضَوْا حتى جعلوا له ما استنكفوا منه لأنفسهم، فما زادوا في تَمَرُّدِهم إلا عُتُوَّا، وفي طغيانهم إلا غَلُوَّاً، وعن قبول الحق ِّ إلا نُبُوَّاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

بيَّن أنه لو كان الصانعُ أكثرَ من واحدٍ لَجَرَى بينهم تَضَادٌ وتمانُعٌ، وصحَّ عند ذلك في صفتهم العجزُ، وذلك من سِمات المحدثات‏.‏

ثم قال سبحانه- تنزيهاً له عن الشَّريك والظهير، والمعين والنظير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

الأحياءُ من أهل السموات والأرض يُسَبِّحون له تسبيحَ قالة، وغير الأحياء يسبح من حيث البرهان والدلالة‏.‏ وما من جزءٍ من الأعيان والآثار إلا وهو دليل على الربوبية، ولكنهم إذا استمعوا توحيداً للأله تعجبوا- لجهلهم وتَعَسُّر إدراكهم- وأنكروا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

أي أدخلناك في إيواءِ حفِظْنَا، وضربنا عليك سرادقاتِ عصمتنا، ومنعنا الأيدي الخاطئةَ عنك بلطفنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

صَرَّح بأنه خالقُ ضلالتهم، وهو المبيت في قلوبهم ما استكنَّ فيها من فرط غوايتهم‏.‏ ‏{‏وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى القُرْءَانِ وَحْدَهُ‏}‏ أحبوا أن تذكر آلهتهم، قد ختم الله على قلوبهم فلا حديثَ يُعْجِبُهُم إلاَّ مِمَّنْ لهم شَكْلٌ ومِثْلٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

لَبِّسُوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحوالَهم، وأظهروا الوفاقَ من أنفسهم، فَفَضَحَهم اللَّهُ تعالى، وكَشَفَ أسرارَهم، وبَيَّنَ مقابِحَهم، وهَتَكَ أستارهم، فما تنطوي عليه السريرة لا بُدَّ أن يَظْهَر لأهل البصيرة بما يبدو على الأسِرَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

عابوه بما ليس بنقيصةٍ في نفسه حيث قالوا‏:‏ ‏{‏إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً‏}‏ أي ذا سِحْرٍ‏.‏ وأيُّ نقيصة كانت له إذا كان صلى الله عليه وسلم- من جملة البَشَر‏؟‏ والحقُّ سبحانه وتعالى متولٍٍ نصرته، ولم يكن تخصيصه ببنْيَة، ولا بصورة، ولا بِحِرْفةٍ، ولم يكن منه شيء بسببه وإنما بَانَ شرفُه لجملة ما تعلَّقه به لُطْفُه القديم- سبحانه- ورحمتهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

أقَرُّوا بأنَّ الله خَلَقَهم، ثم أنكروا قدرته على إعادتهم بعد عَدَمِهم، ولكن‏.‏‏.‏ كما جاز أن يوجِدَهم أولاً وهم في كتم العَدِمِ ولم يكن لهم عين ولا أثر، ولكنهم كانوا في متناول القدرة ومتعلق الإرادة، فَمِنْ حَقِّ صاحبِ القدرة والإرادة أن يعيدَهم إلى الوجود مرة أخرى *** وهكذا إذا رَمَدَت عينُ قلبٍ لم يستبصر صاحبه‏.‏